الأصداف الهادرة، والطحالب الخضراء ، واللؤلؤ
كل صباح يذهب إلى البحر قبل أن تشرق الشمس ، ليلاقيها قبل ازدحام الشاطئ بالصيادين أمثاله ، يحكي لها عن الأرض ، عن البحارة والتجار والناس وأفراحهم وأعيادهم ، عن الكتب والاختراعات وابتسامات الأطفال ، وعن كل الأشياء التي لم تكن تستطيع رؤيتها .
كان تستمع له بشغف ، وحالما يفرغ تقصّ عليه حكايات ذلك العالم العميق الساحر ، قبل لقياها كان البحر بالنسبة له مجرد مصدر للدخل ، بعدها صار بالنسبة له عالماً آخر يتوق لرؤيته .
علمها القراءة ،"كل ما تحتاجين معرفته عن عالم البشر مسطور هنا" قال لها ، وكان يجلب لها الكتب فتختبأ بين الصخور وتقرأها أثناء عمله ، ويحضر لها المزيد والمزيد كل يوم .
حتى جاء اليوم الذي كانت قد قرأت فيه كل الكتب المتواجدة في مكتبة قريته الصغيرة .
كان الحزن بادياً على وجهه ، أخبرها "لقد بتِ تعرفين كل شيء عن عالمنا ولازال عالمك غامضاً بالنسبة لي " ، أطرقت وقالت "لا كتب لدينا لأحضرها لك ، ماذا عساي أن أفعل ؟" .
ظل يتأملها وشعرها الأخضر الذي لم ير له مثيلاً بين فتيات البشر يتألق تحت الشمس ، بعد برهة من الصمت قالت :"لدي فكرة ! " وقفزت في الماء بسرعة .
وظل هو ينتظر .
ذهبت وهي مليئة بالأمل إلى والدها حاكم البحار ، طلبت منه أن يحول بقدرته النافذة صيادها العزيز إلى واحد منهم .
"صياد ! بشري ! كيف عرفتيه ؟ ما علاقتك به ! لماذا تريدينه ان يصبح مثلنا !" وكأن أبواب الجحيم قد انبثقت فجأة من عينيه ، أدركت الحورية أن كارثة حتماً ستقع !
وقد كان .
"لقد أعطيتك حرية أكثر مما كان ينبغي " صاح والدها مزمجراً "ويبدو أنك لم تكوني أهلاً لها ، كم مرة حذرتك من التعامل مع هؤلاء الأوغاد " .
تذكرت تلك الخطب الطويلة عن العداوة بين عالم الأرض والبحر ، وكيف كانت العلاقة دائماً في شد وجذب بينهم ، الناس يقتلون الكثير من سكان البحر فيرد عليهم بفياضانات تغرقهم ، لم تكن علاقة مسالمة أبداً .
"ولكن ، ولكن " أردات أن تدافع عن البشر ، أن تخبره أنها قد عرفت الكثير عنهم من تلك الكتب ، وأنهم ليسوا بذاك السوء ، وبالذات ذلك الصياد المسكين الذي لازال ينتظر عند الشاطئ ، ولكن سجناً من حديد قد حاصرها من كل الجهات قبل أن تتم جملتها ، وكمم فمها بصدفة محكمة فلم تسطع ان تنبس بحرف .
"فلنر اذا ما كان السجن سيعلمك ما لم تفهميه في حريتك " قال والدها ، وخرج مبتعداً .
كل ما كان يشغلها هو صيادها الذي ينظرها هناك ، خلعت عينيها من محجريهما وارسلتهما مع الأمواج لتستطلعا خبره ، فوجدته ساكناً محدقاً تجاه البحر في انتظارها كعادته ،" لقد أشرقت الشمس ولم تأتِ بعد " قال محدثاً نفسه ، "لم يحدث أن خالفت ميعادنا من قبل ، ماذا حدث ؟ هل كانت تلاقيني من أجل الكتب فقط وعندما نفدت استغنت عنّي ؟" صاحت الأميرة ولكن الصدفة منعت خروج أي صوت من شفتيها ، حاولت أن تبعث له برسالة ، لم تجد أي شيء حولها يمكن ارساله ، فاقتطعت خصلة من شعرها وأرسلتها مع الأمواج لتحملها إلى صخرته ، حالما وصلت الخصلة كان قد قَفِل راجعاً .
كانت الحورية تقطع شعرها وترسل خصلها مع الأمواج إليه عله يفطن إلى رسائلها ، ولكنه لم يفعل .
ظل هكذا كل يوم ، يتردد إلى صخرتهما كل يوم على أمل أن يراها آتية بشعرها النعناعي من بعيد ، ولكن كل آماله تحطمت على صخرة الانتظار ،
"لشد بؤسي ، كل ما حولي يذكرني بها ، حتى تلك الكائنات التي تلتصق بصخرتي تحمل نفس لون وشكل شعرها " تنهد ، "يبدو أنها لن تأتي أبداً ".
اندحرت دمعتان من عينيه ، دمعة شوقاً لها ، ودمعة لأنه شعر بأنه قد تم التلاعب بمشاعره لصالحها ، كانت عيناها تحت قدميه في المياه ترقبانه وتذرفان لؤلؤاً ، وصوت صراخها المكتوم يملأ البحر .
عندما أتى الصيادون الاخرون بعد شروق الشمس قالوا له "سنذهب للصيد في مكان آخر فهذه العوالق الخضراء كثرت فجأة هنا ، ربما تكون نذير سوء " .
وقف ينظر إلى البحر مرة أخيرة ، تنهد واستدار ولم يعد .
حالما رأته ينصرف مبتعداً وفي قلبه سوء فهم وسخط عليها ، ويأس من رؤيتها ، تشظى قلبها وتحول إلى فتات ، واطلقت صرخة لازالت كل أصداف البحر تردد صداها ، بينما ظلت عيناها تذرفان اللؤلؤ ، إلى الأبد .
-مريم
-١٥/٥/٢٠١٨
تعليقات
إرسال تعليق